تمنى في لحظة لو مات هو وعاشت أمه..!

كانت تجوب شوارع المدينة.. زرية الهيئة.. شاحبة المحيا.. ودون قوت بحثا عن مأوى تتوارى فيه من لسعات البرد القارص الذي ينخر الحواس ..
وفجأة شعرت بدوار وقعت على اثره مغشيا عليها !..

لمحها أحد المشاة فهم ركضا اليها
أسند رأسها الملفوف بوشاح رث على ذراعه وصاح يهتف بفزع:
ـ سيدتي ! سيدتي ، هل أنت بخير؟
لم تجبه بشيء ، لا شيء على الاطلاق
فقرر الاتصال بالاسعاف..
وصلت سيارة الاسعاف فنقلوها على المستشفى .

في الاستعلامات طلبو من الشاب اثبات الهوية.. فأخبرهم أنه يجهل من تكون .. فقط هو القدر من وضعها في سبيله !..

صباح اليوم الموالي.. استرجعت المرأة وعيها الذي فقدته بسبب الجوع والعياء وهي تجوب المسالك والطرقات بحثا عن مكان تنزوي فيه ..
فوقعت عيناها بعينيه !..
تذكرت ذلك اليوم الملعون الذي قررت أن تزوجه فيه بابنة الجيران.. الفتاة التي كانت تتصنع أمامها وتظهر لها أنها طيبة ؛ تساعدها في أعباء المنزل ..تقضي لها الأغراض وتحمل عنها الأثقال .
تذكرت كيف طردتها من منزلها .. وكيف وقف فلذة كبدها مشدوها ساكنا مكانه.. وأمه المسكينة التي لا تعرف مكانا غير بيتها تلجأه .. تطرد منه ! ومن من؟ من الزوجة التي اختارتها له لتعني به وتسعده.

تأوه ابنها الطبيب الذي كافحت لأجل أن يشتغل منصبا هاما آهة شديدة وقال :
ـ سامحيني أمي ، سامحيني لقد أخطأت بحقك.
أطرقت عينيها ولم تجبه بشيء .. لا شيء البتة!..
فصاح يهتف بصوت متهدج :
ـ أمي ، أرجو عفوك أمي !!
فتحت فاها وكأنها تهم بقول شيء ، ولكنها عادت وأطبقته.
انهمرت دمعة حارقة على خذه وهو يشد بحرارة على يدها الباردة كالثلج وقال:
ـ أماه ، أنا ابنك ، الرحمة أجوكي.
سحبت يدها ببطء وقالت وهي تتأوه وجعا:
ـ سامحك الله بني .. سامحك الله.
و بابتسامة عريضة على شفتاها المجعدتان ، لفظت آخر أنفاسها.. تاركة اياه يعظ التراب بحثا عن ريحها..عن حضنها الدافئ وحنانها الفياض .
تمنى في لحظة لو مات هو وعاشت أمه..!.